فصل: تفسير الآيات رقم (30- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 13‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

لما ذكر جدال الكفار في آيات الله وعصيانهم، ذكر طاعة هؤلاء المصطفين من خلقه، وهم حمله العرش، ‏{‏ومن حوله‏}‏، وهم الحافون به من الملائكة‏.‏ وذكروا من وصف تلك الجملة وعظم خلقهم، ووصف العرش، ومن أي شيء خلق، والحجب السبعينيات التي اختلفت أجناسها، قالوا‏:‏ احتجب الله عن العرش وعن حامليه، والله أعلم به على أن قدرته تعالى محتملة لكل ما ذكروه مما لا يقتضي تجسيماً، لكنه يحتاج إلى نقل صحيح‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏العرش‏}‏ بفتح العين؛ وابن عباس وفرقة‏:‏ بضمها، كأنه جمع عرش، كسقف وسقف، أو يكون لغة في العرش‏.‏

‏{‏يسبحون بحمد ربهم‏}‏‏:‏ أي ينزهونه عن جميع النقائص، ‏{‏بحمد ربهم‏}‏‏:‏ بالثناء عليه بأنه المنعم على الإطلاق‏.‏ والتسبيح‏:‏ إشارة إلى الإجلال؛ والتحميد‏:‏ إشارة إلى الإكرام، فهو قريب من قوله‏:‏ ‏{‏تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام‏}‏ ونظيره‏:‏ ‏{‏وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق‏}‏ وقولهم‏:‏ ونحن نسبح بحمدك‏.‏ ‏{‏ويؤمنون‏}‏‏:‏ أي ويصدقون بوجوده تعالى وبما وصف به نفسه من صفاته العلا، وتسبيحهم إياه يتضمن الإيمان‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما فائدة قوله‏:‏ ‏{‏ويؤمنون به‏}‏، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون‏؟‏ قلت‏:‏ فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابة بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمالهم الخير بقوله‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ فأبان بذلك فضل الإيمان‏.‏ وفائدة أخرى، وهي التبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهد بن معاينين، ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب‏.‏ ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا، وأنه منزه عن صفات الإجرام‏.‏

وقد روعي التناسب في قوله‏:‏ ‏{‏ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏، كأنه قيل‏:‏ ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم، وفيه تنبيه على أن الإشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة، وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماء وأرض قط ثم لما جاء جامع الإيمان، جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ انتهى، وهو كلام حسن‏.‏ إلا أن قوله‏:‏ إن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير فيه نظر، وقوله‏:‏ ‏{‏ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏ تخصيص لعموم قوله‏:‏ ‏{‏ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏‏.‏

وقال مطرف بن الشخير‏:‏ وجدنا أصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد الشياطين، وتلا هذه الآية‏.‏ انتهى‏.‏ وينبغي أن يقال‏:‏ أنصح العباد للعباد الأنبياء والملائكة‏.‏ ‏{‏ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً‏}‏‏:‏ أي يقولون‏:‏ ربنا واحتمل هذا المحذوف بياناً ليستغفرون، فيكون في محل رفع، وأن يكون حالاً، فيكون في موضع نصب‏.‏ وكثيراً ما جاء النداء بلفظ ربنا ورب، وفيه استعطاف العبد لمولاه الذي رباه وقام بمصالحه من لدن نشأته إلى وقت ندائه، فهو جدير بأن لا يناديه إلا بلفظ الرب‏.‏ وانتصب رحمة وعلماً على التمييز، والأصل‏:‏ وسعت رحمتك كل شيء، وعلمك كل شيء؛ وأسند الوسع إلى صاحبها مبالغة، كأن ذاته هي الرحمة والعلم، وقد وسع كل شيء‏.‏ وقدم الرحمة، لأنهم بها يستمطرون أحسانه ويتوسلون بها إلى حصول مطلوبهم من سؤال المغفرة‏.‏

ولما حكى تعالى عنهم كيفية ثنائهم عليه، وأخبر باستغفارهم، وهو قولهم‏:‏ ‏{‏فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك‏}‏‏.‏ وطلب المغفرة نتيجة الرحمة، وللذين تابوا يتضمن أنك علمت توبتهم، فهما راجعان إلى قوله‏:‏ ‏{‏رحمة وعلماً‏}‏، و‏{‏اتبعوا سبيلك‏}‏، وهي سبيل الحق التي نهجتها لعبادك، ‏{‏إنك العزيز‏}‏‏:‏ الذي لا تغالب، ‏{‏الحكيم‏}‏‏:‏ الذي يضع الأشياء مواضعها التي تليق بها‏.‏ ولما طلب الغفران يتضمن إسقاط العذاب، أرادفوه بالتضرع بوقايتهم العذاب على سبيل المبالغة والتأكيد، فقالوا‏:‏ ‏{‏وقهم عذاب الجحيم‏}‏، وطلب المغفرة، ووقاية العذاب للتأئب الصالح، وقد وعد بذلك الوعد الصادق بمنزلة الشفاعة في زيادة الثواب والكرامة‏.‏

ولما سألوا إزالة العقاب، سألوا اتصال الثواب، وكرر الدعاء بربنا فقالوا‏:‏ ‏{‏ربنا وأدخلهم جنات عدن‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ جنات جمعاً؛ وزيد بن علي، والأعمش‏:‏ جنة عدن بالإفراد، وكذا في مصحف عبد الله، وتقدم الكلام في إعراب التي في قوله‏:‏ ‏{‏جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب‏}‏ في سورة مريم‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ صلح بضم اللام، يقال‏:‏ صلح فهو صليح وصلح فهو صالح‏.‏ وقرأ عيسى‏:‏ وذريتهم، بالإفراد؛ والجمهور بالجمع‏.‏ وعن ابن جبير في تفسير ذلك أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول‏:‏ أين أبي‏؟‏ أين أمي‏؟‏ أين ابني‏؟‏ أين زوجتي‏؟‏ فيلحقون به لصلاحه ولتنبيهه عليه وطلبه إياهم، وهذه دعوة الملائكة‏.‏ انتهى‏.‏ وإذا كان الإنسان في خير، ومعه عشيرته وأهله، كان أبهج عنده وأسر لقلبه‏.‏ والظاهر عطف ومن على الضمير في وأدخلهم، إذ هم المحدث عنهم والمسؤول لهم‏.‏ وقال الفراء، والزجاج‏:‏ نصبه من مكانين‏:‏ إن شئت على الضمير في ‏{‏وأدخلهم‏}‏، وإن شئت على الضمير في ‏{‏وعدتهم‏}‏‏.‏

‏{‏وقهم السيئات‏}‏‏:‏ أي امنعهم من الوقوع فيها حتى لا يترتب عليها اجزاؤها، أو وقهم جزاء السيئات التي إجترحوها، فحذف المضاف ولا تكرار في هذا، وقوله‏:‏ ‏{‏وقهم عذاب الجحيم‏}‏ لعدم توافق المدعو لهم أن الدعاء الأول للذين تابوا، والثاني أنه لهم ولمن صلح من المذكورين، أو لا ختلاف الدعاءين إذا أريد بالسيئات أنفسهم، فذلك وقاية عذاب الجحيم، وهذا وقاية الوقوع في السيئات‏.‏

والتنوين في بومئذ تنوين العوض، والمحذوف جملة عوض منها التنوين، ولم تتقدم جملة يكون التنوين عوضاً منها، كقوله‏:‏ ‏{‏فلولا إذا بلغت الحلقوم‏}‏ ‏{‏وأنتم حينئذ‏}‏ أي حين إذ بلغت الحلقوم، فلا بد من تقدير جملة يكون التنوين عوضاً منها كقوله، يدل عليها معنى الكلام، وهي ‏{‏ومن تق السيئات‏}‏‏:‏ أي جزاءها يوم إذ يؤاخذ بها ‏{‏فقد رحمته‏}‏‏.‏ ولم يتعرض أحد من المفسرين الذين وقفنا على كلامهم في الآية للجملة التي عوض منها التنوين في يومئذ، وذلك إشارة إلى الغفران‏.‏ ودخول الجنة ووقاية العذاب هو الفوز بالظفر العظيم الذي عظم خطره وجل صنعه‏.‏

ولما ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين، وذكر شيئاً من أحوال الكافرين، وما يجري لهم في الآخرة من اعترافهم بذنوبهم واستحقاقهم العذاب وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا‏.‏ ونداؤهم، قال السدي‏:‏ في النار‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يوم القيامة، والمنادون لهم الزبانية على جهة التوبيخ والتقريع‏.‏ واللام في ‏{‏لمقت‏}‏ لام الابتداء ولام القسم، ومقت مصدر مضاف إلى الفاعل، التقدير‏:‏ لمقت الله إياكم، أو لمقت الله أنفسكم، وحذف المفعول لدلالة ما بعده عليه في قوله‏:‏ ‏{‏أكبر من مقتكم أنفسكم‏}‏‏.‏ والظاهر أن مقت الله إياهم هو في الدنيا، ويضعف أن يكون في الآخرة، كما قال بعضهم لبقاء ‏{‏إذ تدعون‏}‏، مفلتاً من الكلام، لكونه ليس له عامل تقدم، ولا مفسر لعامل‏.‏ فإذا كان المقت السابق في الدنيا، أمكن أن يضمر له عامل تقديره‏:‏ مقتكم إذ تدعون‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وإذ تدعون منصوب بالمقت الأول، والمعنى‏:‏ أنه يقال لهم يوم القيامة‏:‏ إن الله مقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر، أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار، إذ أوقعتكم فيها بأتباعكم هواهن‏.‏ انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال‏.‏ وأخطأ في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ تدعون‏}‏ منصوب بالمقت الأول، لأن المقت مصدر، ومعموله من صلته، ولا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد استيفائه صلته، وقد أخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏أكبر من مقتكم أنفسكم‏}‏، وهذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تخفي على المبتدئين، فضلاً عمي تدعي العجم أنه في العربية شيخ العرب والعجم‏.‏

ولما كان الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، لا يجوز قدرنا العامل فيه مضمر، أي مقتكم إذ تدعون، وشبيهة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر‏}‏ قدروا العامل برجعه ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏ للفصل ب ‏{‏لقادر‏}‏ بين المصدر ويوم‏.‏ واختلاف زماني المقتين الأول في الدنيا والآخرة هو قول مجاهد وقتادة وابن زيد والآكثرين‏.‏ وتقدم لنا أن منهم من قال في الآخرة، وهو قول الحسن‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وعن الحسن لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا‏:‏ ‏{‏لمقت الله‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله تعالى‏:‏

‏{‏يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً‏}‏ ‏{‏وإذ تدعون‏}‏ تعليل‏.‏ انتهى‏.‏ وكان قوله‏:‏ ‏{‏وإذ تدعون‏}‏ تعليل من كلام الزمخشري‏.‏ وقال قوم‏:‏ إذ تدعون معمول، لأ ذكر محذوفة، ويتجه ذلك على أن يكون مقت الله إياهم في الآخرة، على قول الحسن، قيل لهم ذلك توبيخاً وتقريعاً وتنبيهاً على ما فاتهم من الإيمان والثواب‏.‏ ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ من مقت أنفسكم، أن كل واحد يمقت نفسه، أو أن بعضكم يمقت بعضاً، كما قيل‏:‏ إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر، والرؤساء يمقتون الأتباع، وقيل‏:‏ يمقتون أنفسهم حين قال لهم الشيطان‏:‏ ‏{‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏، والمقت أشد البغض، وهو مستحيل في حق الله تعالى، فمعناه‏:‏ الإنكار والزجر‏.‏

‏{‏قالوا ربنا أمتنا اثنتين‏}‏‏:‏ وجه اتصال هذه بما قبلها أنهم كانوا ينكرون البعث، وعظم مقتهم أنفسهم هذا الإنكار، فلما مقتوا أنفسهم ورأوا حزناً طويلاً رجعوا إلى الإقرار بالبعث، فأقروا أنه تعالى أماتهم اثنتين وأحياهم اثنتين تعظيماً لقدرته وتوسلاً إلى رضاه، ثم أطمعوا أنفسهم بالاعتراف بالذنوب أن يردوا إلى الدنيا، أي إن رجعنا إلى الدنيا ودعينا للإيمان بادرنا، إليه‏.‏ وقال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وأبو مالك‏:‏ موتهم كوبهم ماء في الأصلاب، ثم إحياؤهم في الدنيا، ثم موتهم فيها، ثم إحياؤهم يوم القيامة‏.‏ وقال السدي‏:‏ إحياؤهم في الدنيا، ثم إماتتهم فيها، ثم إحياؤهم في القبر لسؤال الملكين، ثم إماتتهم فيه، ثم إحياؤهم في الحشر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ إحياؤهم نسماً عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم، ثم إماتتهم بعد، ثم إحياؤهم في الدنيا، ثم إماتتهم، ثم إحياؤهم، فعلى هذا والذي قبله تكون ثلاثة إحياءات، وهو خلاف القرآن‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ الكافر في الدنيا حي الجسد، ميت القلب، فاعتبرت الحالتان، ثم إماتتهم حقيقة، ثم إحياؤهم في البعث، وتقدم الكلام في أول البقرة على الإماتتين والإحياءين في قوله‏:‏ ‏{‏كيف تكفرون وكنتم أمواتاً‏}‏ الآية، وكررنا ذلك هنا لبعد ما بين الموضعين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف صح أن يسمي خلقهم أمواتاً إماتة‏؟‏ قلت‏:‏ كما صح‏:‏ سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وقولك للحفار ضيق فم، الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر، ولا من صغر إلى كبر، ولا من ضيق إلى سعة، ولا من سعة إلى ضيق، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات‏.‏ والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معاً على المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين، وهو متمكن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع إلى الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه‏.‏ انتهى‏.‏ يعني أن خلقهم أمواتاً، كأنه نقل من الحياة وهو الجائز الآخر‏.‏ وظاهر ‏{‏فاعترفنا بذنوبنا‏}‏ أنه متسبب عن قبولهم‏.‏

‏{‏ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين‏}‏، وثم محذوف، أي فعرفنا قدرتك على الإماتة والإحياء، وزال إنكارانا للبعث، ‏{‏فاعترفنا بذنوبنا‏}‏ السابقة من إنكار البعث وغيره‏.‏ ‏{‏فهل إلى الخروج‏}‏‏:‏ أي سريع أو بطيء من النار، ‏{‏من سبيل‏}‏‏:‏ وهذا سؤال من يئس من الخروج، ولكنه تعلل وتحير‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏‏:‏ الظاهر أن الخطاب للكفار في الآخرة، والإشارة إلى العذاب الذي هم فيه، أو إلى مقتهم أنفسهم، أو إلى المنع من الخروج والزجر والإهانة، احتمالات‏.‏ مقوله‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب المحاضرين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والضمير في فإنه ضمير الشأن‏.‏ ‏{‏إذا دعي الله وحده‏}‏‏:‏ أي إذا أفرد بالإلهية ونفيت عن سواه، ‏{‏كفرتم وإن يشرك به‏}‏‏:‏ أي ذكرت اللات والعزى وأمثالهما من الأصنام، صدقتم بألوهيتها وسكنت نفوسكم إليها‏.‏ ‏{‏فالحكم‏}‏ بعذابكم، ‏{‏لله‏}‏، لا لتلك الأصنام التي أشركتموها مع الله، ‏{‏العلي‏}‏ عن الشرك، ‏{‏الكبير‏}‏‏:‏ العظيم الكبرياء‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ لأهل النار خمس دعوات، يكلمهم الله في الأربعة، فإذا كانت الخامسة سكتوا‏.‏ ‏{‏قالوا ربنا آمتنا اثنتين‏}‏ الآية، وفي إبراهيم‏:‏ ‏{‏ربنا أخرنا‏}‏ الآية، وفي السجدة‏:‏ ‏{‏ربنا أنصرنا‏}‏ الآية، وفي فاطر‏:‏ ‏{‏ربنا أخرجنا‏}‏ الآية، وفي المؤمنون‏:‏ ‏{‏ربنا غلبت علينا شقوتنا‏}‏ الآية، فراجعهم اخسؤا فيها ولا تكلمون، قال‏:‏ فكان آخر كلامهم ذلك‏.‏

ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين، أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته، ليصير ذلك دليلاً على أنه لا يجوز جعل الأحجار المنحوتة والخشب المعبودة شركاء لله، فقال‏:‏ ‏{‏هو الذي يريكم آياته‏}‏، أيها الناس، ويشمل آيات قدرته من الريح السحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها من الأثار العلوية، وآيات كتابه المشتمل على الأولين والآخرين، وآيات الإعجاز على أيدي رسله‏.‏ وهذه الآيات راجعة إلى نور العقل الداعي إلى توحيد الله‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وينزل لكم من السماء رزقاً‏}‏، وهو المطر الذي هو سبب قوام بنية البدن، فتلك الآيات للأديان كهذا الرزق للأبدان‏.‏ ‏{‏وما يتذكر‏}‏‏:‏ أي يتعظ ويعتبر، وجعله تذكراً لأنه مركوز في العقول دلائل التوحيد، ثم قد يعرض الاشتغال بعبادة غير الله فيمنع من تجلى نور العقل، فإذا تاب إلى الله تذكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 22‏]‏

‏{‏فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

الأمر بقوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله‏}‏ للمنيبين المؤمنين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي اعبدوه، ‏{‏مخلصين له الدّين‏}‏ من الشرك على كل حال، حتى في حال غيظ أعدائكم المتمالئين عليكم وعلى استئصالكم‏.‏ ورفيع‏:‏ خبر مبتدأ محذوف‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ثلاثة أخبار مترتبة على قوله‏:‏ ‏{‏الذي يريكم‏}‏ أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً‏.‏ انتهى‏.‏ أما ترتبها على قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يريكم‏}‏، فبعيد كطول الفصل، وأما كونها أخباراً مبتدأ محذوف، فمبني على جواز تعدد الأخبار، إذا لم تكن في معنى خبر واحد، والمنع اختيار أصحابنا‏.‏ وقرئ‏:‏ رفيع بالنصب على المدح، واحتمل أن يكون رفيع للمبالغة على فعيل من رافع، فيكون الدرجات مفعول، أي رافع درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة‏.‏ وبه فسرا بن سلام، أو عبر بالدرجات عن السموات، أرفعها سماء، والعرش فوقهنّ‏.‏ وبه فسر ابن جبير، واحتمل أن يكون رفيع فعيلاً من رفع الشيء علا فهو رفيع، فيكون من باب الصفة المشبهة، والدرجات‏:‏ المصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، أضيفت إليه دلالة على عزه وسلطانه، أي درجات ملائكته، كما وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏ذي المعارج‏}‏ أو يكون ذلك عبارة عن رفعه شأنه وعلو سلطانه‏.‏ كما أن قوله‏:‏ ‏{‏ذو العرش‏}‏ عبارة عن ملكه، وبنحوه فسر ابن زيد قال‏:‏ عظيم الصفات‏.‏ و‏{‏الروح‏}‏‏:‏ النبوة، قاله قتادة والسدي، كما قال‏:‏ ‏{‏روحاً من أمرنا‏}‏ وعن قتادة أيضاً‏:‏ الوحي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ القرآن، وقال الضحاك‏:‏ جبريل يرسله لمن يشاء‏.‏ وقيل‏:‏ الرحمة، وقيل‏:‏ أرواح العباد، وهذان القولان ضعيفان، والأولى الوحي، استعير له الروح لحياة الأديان المرضية به، كما قال‏:‏ ‏{‏أو من كان ميتا فأحييناه‏}‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون القاء الروح عامل لكل ما ينعم الله به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الروح‏:‏ كل ما به حياة الناس، وكل مهتد حي، وكل ضال ميت‏.‏ انتهى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏من أمره‏}‏‏:‏ من قضائه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ بأمره، وحكى الشعبي من قوله، ويظهر أن من لابتداء الغاية‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لينذر‏}‏ مبنياً للفاعل، ‏{‏يوم‏}‏ بالنصب، والظاهر أن الفاعل يعود على الله، لأنه هو المحدث عنه‏.‏ واحتمل يوم أن يكون مفعولاً على السعة، وأن يكون ظرفاً، والمنذر به محذوف‏.‏ وقرأ أبيّ وجماعة‏:‏ كذلك إلا أنهم رفعوا يوم على الفاعلية مجازاً‏.‏ وقيل‏:‏ الفاعل في القراءة الأولى ضمير الروح‏.‏ وقيل‏:‏ ضمير من‏.‏ وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح‏:‏ لينذر مبنياً للمفعول، يوم التلاق، برفع الميم‏.‏ وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه‏:‏ لتنذر بالتاء، فقالوا‏:‏ الفاعل ضمير الروح، لأنها تؤنث، أو فيه ضمير الخطاب الموصول‏.‏ وقرئ‏:‏ التلاق والتناد، بياء وبغير ياء، وسمي يوم التلاق لالتقاء الخلائق فيه، قاله ابن عباس‏.‏

وقال قتادة ومقاتل‏:‏ يلتقي فيه الخالق والمخلوق‏.‏ وقال ميمون بن مهران‏:‏ يلتقي فيه الظالم والمظلوم‏.‏ وحكى الثعلبي‏:‏ يلتقي المرء بعلمه‏.‏ وقال السدّي‏:‏ يلاقي أهل السماء أهل الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ يلتقى العابدون ومعبودهم‏.‏ ‏{‏يوم هم بارزون‏}‏‏:‏ أي ظاهرون من قبورهم، لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لأن الأرض إذ ذاك قاع صفصف، ولا من ثياب، لأنهم يحشرون حفاة عراة‏.‏ ويوماً بدل من يوم التلاق، وكلاهما ظرف مستقبل‏.‏ والظرف المستقبل عند سيبويه لا يجوز إضافته إلى الجملة الإسمية، لا يجوز‏:‏ أجيئك يوم زيد ذاهب، أجراء له مجرى إذا، فكما لا يجوز أن تقول‏:‏ أجيئك إذا زيد ذاهب، فكذلك لا يجوز هذا‏.‏ وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك، فيتخرج قوله‏:‏ ‏{‏يوم هم بارزون‏}‏ على هذا المذهب‏.‏ وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا على قلة، والدلائل مذكورة في علم النحو‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون انتصابه على الظرف، والعامل فيه قوله‏:‏ ‏{‏لا يخفى‏}‏، وهي حركة إعراب لا حركة بناء، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، كيومئذ‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

على حين عاتبت المشيب على الصبا ***

وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يوم ينفع‏}‏ وأما في هذه الآية فالجملة اسم متمكن، كما تقول‏:‏ جئت يوم زيد أمير، فلا يجوز البناء‏.‏ انتهى‏.‏ يعني أن ينتصب على الظرف قوله‏:‏ ‏{‏يوم هم بارزون‏}‏‏.‏ وأما قوله لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، فالبناء ليس متحتماً، بل يجوز فيه البناء والإعراب‏.‏ وأما تمثيله بيوم ينفع، فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب، ومذهب الكوفيين جواز البناء والإعراب فيه‏.‏ وأما إذا أضيف إلى جملة إسمية، كما مثل من قوله‏:‏ جئت يوم زيد أمير، فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب، كما ذكر، والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء‏.‏ وذهب إليه بعض أصحابنا، وهو الصحيح لكثرة شواهد البناء على ذلك‏.‏ ووقع في بعض تصانيف أصحابنا أنه يتحتم فيه البناء، وهذا قول لم يذهب إليه أحد، فهو وهم‏.‏ ‏{‏لا يخفى على الله منهم شيء‏}‏‏:‏ أي من سرائرهم وبواطنهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا هلك من في السموات ومن في الأرض، فلم يبق إلا الله قال‏:‏ ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏، فلا يجيبه أحد، فيرد على نفسه‏:‏ ‏{‏لله الواحد القهار‏}‏‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد بأرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم به أن ينادي مناد‏:‏ ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏‏؟‏ فيجيبوا كلهم‏:‏ ‏{‏لله الواحد القهار‏}‏‏.‏ روي أنه تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة وجزعاً، فيجيب نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏لله الواحد القهار‏}‏، فيجيب الناس، وإنما خص التقرير باليوم، وإن كان الملك له تعالى في ذلك اليوم وفي غيره، لظهور ذلك للكفرة والجهلة ووضوحه يوم القيامة‏.‏

وإذا تأمّل من له مسكة عقل تسخير أهل السموات الأرض، ونفوذ القضاء فيهم، وتيقن أن لا ملك إلا لله، ومن نتائج ملكه في ذلك اليوم جزاء كل نفس بما كسبت، وانتفاء الظلم، وسرعة الحساب، إن حسابهم في وقت واحد لا يشغله حساب عن حساب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبد‏.‏ انتهى، وهو على طريقة الأشعرية‏.‏ وروى أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار‏.‏ و‏{‏يوم الآزفة‏}‏‏:‏ هو يوم القيامة، يأمر تعالى نبيه أن ينذر العالم ويحذرهم منه ومن أهواله، قاله مجاهد وابن زيد‏.‏ والآزفة صفة لمحذوف تقديره يوم الساعة الآزفة، أو الطامة الآزفة ونحو هذا‏.‏ ولما اعتقب كل إنذار نوعاً من الشدة والخوف وغيرهما، حسن التكرار في الآزفة القريبة، كما تقدم، وهي مشارفتهم دخول النار، فإنه إذ ذاك تزيغ القلوب عن مقارها من شدة الخوف‏.‏ وقال أبو مسلم‏:‏ يوم الآزفة‏:‏ يوم المنية وحضور الأجل، يدل عليه أنه يعدل وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق، ويوم بروزهم، فوجب أن يكون هذا اليوم غيره، وهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات، يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب، وأيضاً فالصفات المذكورة بعد قوله‏:‏ ‏{‏يوم الآزفة‏}‏، لائقة بيوم حضور المنية، لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب لعظم خوفه، يكاد قلبه يبلغ حنجرته من شدّة الخوف، ولا يكون له حميم ولا شفيع يرفع عنه ما به من أنواع الخوف‏.‏

‏{‏إذ القلوب لدى الحناجر‏}‏، قيل‏:‏ يجوز أن يكون ذلك يوم القيامة حقيقة، ويبقون أحياء مع ذلك بخلاف حالة الدنيا، فإن من انتقل قلبه إلى حنجرته مات، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ما يبلغون إليه من شدة الجزع، كما تقول‏:‏ كادت نفسي أن تخرج، وانتصب كاظمين على الحال‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى، إذا المعنى‏:‏ إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها، ويجوز أن تكون حالاً عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها، مع بلوغها الحناجر‏.‏ وإنما جمع الكاظم جمع السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال‏:‏ ‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏ وقال‏:‏ فظلت أعناقهم لها خاضعين، ويعضده قراءة من قرأ‏:‏ كاظمون، ويجوز أن يكون حالاً عن قوله‏:‏ أي وانذرهم مقدرين‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ كاظمين حال، مما أبدل منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تشخص فيه الأبصار مهطعين‏}‏ أراد تشخص فيه أبصارهم، وقال الحوفي‏:‏ القلوب رفع بالإبتداء، ولدى الحناجر الخبر متعلق بمعنى الاستقرار‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ كاظمين حال من القلوب، لأن المراد أصحابها‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏ما للظالمين من حميم‏}‏‏:‏ أي محب مشفق، ولا شفيع يطاع في موضع الصفة لشفيع، فاحتمل أن يكون في موضع خفض على اللفظ، وفي موضع رفع على الموضع واحتمل أن ينسحب النفي على الوصف فقط، فيكون من شفيع، ولكنه لا يطاع، أي لا تقبل شفاعته، واحتمل أن ينسحب النفي على الموصوف وصفته‏:‏ أي لا شفيع فيطاع، وهذا هو المقصود في الآية أن الشفيع عند الله إنما يكون من أوليائه تعالى، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضاه الله وأيضاً فيكون في زيادة التفضل والثواب ولا يمكن شيء من هذا في حق الكافر‏.‏

وعن الحسن‏:‏ والله لا يكون لهم شفيع البتة، ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏، كقوله‏:‏

وإن سقيت كرام الناس فاسقينا ***

أي الناس الكرام، وجوزوا أن تكون خائنة مصدراً، كالعافية والعاقبة، أي يعلم خيانة الأعين‏.‏ ولما كانت الأفعال التي يقصد بها التكتم بدنية، فأخفاها خائنة الأعين من كسر جفن وغمز ونظر يفهم معنى ويريد صاحب معنى آخر وقلب، وهو ما تحتوي عليه الضمائر، قسم ما ينكتم به إلى هذين القسمين، وذكر أن علمه متعلق بهما التعلق التام‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين، لأن قوله‏:‏ ‏{‏وما تخفي الصدور‏}‏ لا يساعد عليه‏.‏ انتهى، يعني أنه لا يناسب أن يكون مقابل المعنى إلا المعنى، وتقدم أن الظاهر أن يكون التقدير الأعين الخائنة، والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏ الآية متصل بما قبله، لما أمر بإنكاره يوم الآزفة، وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم، وأن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك، ولا من يشفع له‏.‏

ذكر اطلاعه تعالى على جميع ما يصدر من العبد، وأنه مجازي بما عمل، ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله مطلع على أعماله‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏ متصل بقوله‏:‏ ‏{‏سريع الحساب‏}‏، لأن سرعة حسابه للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر، ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ يعلم متصل بقوله‏:‏ ‏{‏لا يخفي على الله منهم شيء‏}‏، وهذا قول حسن، يقويه تناسب المعنيين، ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ فإن قلت‏:‏ بم اتصل قوله‏:‏ ‏{‏يعلم خائنة الاعين‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ هو خبر من أخبار هو في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يريكم البرق‏}‏ مثل‏:‏ ‏{‏يلقي الروح‏}‏، ولكن من يلقي الروح قد علل بقوله‏:‏ ‏{‏لينذر يوم التلاق‏}‏، ثم أسقط وتذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا شفيع يطاع‏}‏، فبعد لذلك عن إخوانه‏.‏ انتهى‏.‏ وفي بعض الكتب المنزلة، انا مرصاد الهمم، انا العالم بحال الفكر وكسر العيون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ خائنة الأعين‏:‏ مسارقة النظر إلى ما لا يجوز؛ ومثل المفسرون خائنة الأعين بالنظر الثاني إلى حرمة غير الناظر، وما تحفي الصدور بالنظر الأول الذي لا يمكن رفعه‏.‏

‏{‏والله يقضي بالحق‏}‏‏:‏ هذا يوجب عظيم الخوف، لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوال لا يقضي إلا بالحق في ما دق وجل خافه الخلق غاية‏.‏

‏{‏والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء‏}‏‏:‏ هذا قدح في أصنامهم وتهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة، لا يقال فيه يقضي ولا يقضى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يدعون‏}‏ بياء الغيبة لتناسب الضمائر الغائبة قبل‏.‏ وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ونافع‏:‏ بخلاف عنه؛ وهشام‏:‏ تدعون بتاء الخطاب، أي قل لهم يا محمد‏.‏ ‏{‏إن الله هو السميع البصير‏}‏‏:‏ تقرير لقوله‏:‏ ‏{‏يعلم خائننة الأعين وما تخفي الصدور‏}‏، وعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعلمون وتعريض بأصنامهم أنها لا تسمع ولا تبصر‏.‏ ‏{‏أوَلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم‏}‏‏:‏ أحال قريشاً على الاعتبار بالسير، وجاز أن يكون فينظروا مجزوماً عطفاً على يسيروا وأن يكون منصوباً على جواب النفي، كما قال‏:‏

ألم تسأل فتخبرك الرسوم ***

وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة، وحمل الزمخشري هم على أن يكون فصلاً ولا يتعين، إذ يجوز أن يكون هم توكيداً لضمير كانوا‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ منهم بضمير الغيبة؛ وابن عامر‏:‏ منكم بضمير الخطاب على سبيل الالتفات‏.‏ ‏{‏وآثاراً في الأرض‏}‏‏:‏ معطوف على قوة، أي مبانيهم وحصونهم وعددهم كانت في غاية الشدة‏.‏ ‏{‏وتنحتون من الجبال بيوتاً‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو أرادوا أكثر آثاراً لقوله‏:‏

متقلداً سيفاً ورمحاً *** انتهى‏.‏ أي‏:‏ ومعتقلاً رمحاً، ولا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة المعنى بدونه‏.‏ ‏{‏من واق‏}‏‏:‏ أي وما كان لهم من عذاب الله من ساتر بمنعهم منعه‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏‏:‏ أي الأخذ، وتقدم تفسير نظير ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 29‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏27‏)‏ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

ابتدأ تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، ووعيد القريش أن يحل بهم ما حل بفرعون وقومه من نقمات الله، ووعد للمؤمنين بالظفر والنصر وحسن العاقبة‏.‏ وآيات موسى عليه السلام كثيرة، والذي تحدى به من المعجز العصا واليد‏.‏ وقرأ عيسى‏:‏ وسلطان بضم اللام، والسلطان المبين‏:‏ الحجة والبرهان الواضح‏.‏ والظاهر أن قارون هو الذي ذكره تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏إن قارون كان من قوم موسى‏}‏ وهو من بني إسرائيل‏.‏ وقيل‏:‏ هو غيره، ونص على هامان وقارون لمكانتهما في الكفر، ولأنهما أشهر أتباع فرعون‏.‏ ‏{‏فقالوا ساحر كذاب‏}‏‏:‏ أي هذا ساحر، لما ظهر على يديه من قلب العصاحية، وظهور النور الساطع على يده، كذاب لكونه ادعى أنه رسول من رب العالمين‏.‏ ‏{‏فلما جاءهم بالحق من عندنا‏}‏‏:‏ أي بالمعجزات والنبوة والدعاء إلى الإيمان بالله، ‏{‏قالوا‏}‏، أي أولئك الثلاثة، ‏{‏اقتلوا‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً‏.‏ انتهى‏.‏ يريد أن هذا غير القتل الأول، وإنما أمروا بقتل أبناء المؤمنين لئلا يتقوى بهم موسى عليه السلام، وباستحياء النساء للاستخدام والاسترقاق، ولم يقع ما أمروا به ولا تم لهم، ولا أعانهم الله عليه‏.‏ ‏{‏وما كيد الكافرين إلا في ضلال‏}‏‏:‏ أي في حيرة وتخبط، لم يقع منه شيء، ولا أنجح سعيهم، وكانوا باشروا القتل أولاً، فنفذ قضاء الله في إظهار من خافوا هلاكهم على يديه‏.‏ وقيل‏:‏ كان فرعون قد كف عن قتل الأبناء، فلما بعث موسى، وأحس أنه قد وقع ما كان يحذره، أعاد القتل عليهم غيظاً وحنقاً وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين معاً‏.‏

‏{‏وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه‏}‏، قال الزمخشري‏:‏ بعضه من كلام الحسن، كان إذا هم بقتله كفوه بقولهم‏:‏ ليس بالذي تخافه، هو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقامه إلا ساحر مثله، ويقولون‏:‏ إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة‏.‏ والظاهر أن فرعون، لعنه الله، كان قد استيقن أنه نبي، وأن ما جاء به آيات وما هو سحر، ولكن الرجل كان فيه خبث وجبروت، وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه، يهدم ملكه‏؟‏ ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وليدع ربه‏}‏‏:‏ شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، كان قوله‏:‏ ‏{‏ذروني أقتل موسى‏}‏ تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى انهدَّ ركنه واضطربت معتقدات أصحابه، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره، وذلك بين من غير ما موضع في قصتهما، وفي ذلك على هذا دليلان‏:‏ أحدهما‏:‏ قوله ‏{‏ذروني‏}‏، فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم‏.‏

الدليل الثاني‏:‏ في مقالة المؤمن وما صدع به، وأن مكاشفته لفرعون خير من مساترته، وحكمه بنبوة موسى أظهر من تقريبه في أمره‏.‏ وأما فرعون، فإنه نحا إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي، ومن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ذروني أقتل موسى وليدع ربه‏}‏‏:‏ أي إني لا أبالي من رب موسى، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والخيانة لهم، فقال‏:‏ ‏{‏إني أخاف أن يبدل دينكم‏}‏، والدين‏:‏ السلطان، ومنه قول زهير‏:‏

لئن حللت بجوّ في بني أسد *** في دين عمرو وحالت بيننا فدك

انتهى‏.‏ وتبديل دينهم هو تغييره، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام، كما قال‏:‏ ‏{‏ويذرك وآلهتك‏}‏ أو أن يظهر الأرض الفساد، وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن، وتتعطل المزارع والمكاسب، ويهلك الناس قتلاً وضياعاً، فأخاف فساد دينكم ودنياكم معاً‏.‏ وبدأ فرعون بخوفه تغيير دينهم على تغيير دنياهم، لأن حبهم لأديانهم فوق حبهم لأموالهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ذروني‏}‏ يدل على أنهم كانوا يمنعونه من قتله، إما لكون بعضهم كان مصدقاً له فيتحيل في منع قتله، وإما لما روي عن الحسن مما ذكر الزمخشري، وإما الشغل قلب فرعون بموسى حتى لا يتفرغ لهم، ويأمنوا من شره؛ كما يفعلون مع الملك، إذا خرج عليه خارجي شغلوه به حتى يأمنوا من شره‏.‏ وقرأ الكوفيون‏:‏ أو أن، بترديد الخوف بين تبديل الدين أو ظهور الفساد‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ وأن بانتصاب الخوف عليهما معاً‏.‏ وقرأ أنس بن مالك، وابن المسيب، ومجاهد، وقتادة، وأبو رجاء، والحسن، والجحدري، ونافع، وأبو عمرو، وحفص‏:‏ ‏{‏يظهر‏}‏ من أظهر مبنياً للفاعل، ‏{‏الفساد‏}‏‏:‏ نصباً‏.‏ وقرأ باقي السبعة، والأعرج، والأعمش، وابن وثاب، وعيسى‏:‏ يظهر من ظهر مبنياً للفاعل، الفساد‏:‏ رفعاً‏.‏ وقرأ مجاهد‏:‏ يظهر بشد الظاء والهاء، الفساد‏:‏ رفعاً‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ‏:‏ يظهر‏:‏ بضم الياء وفتح الهاء مبنياً للمفعول، الفساد‏:‏ رفعا «‏.‏

ولما سمع موسى بمقالة فرعون، استعاذ بالله من شر كل متكبر منكر للمعاد‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وربكم‏}‏‏:‏ بعثاً على الاقتداء به، فيعوذون بالله ويعتصمون به ومن كل متكبر يشمل فرعون وغيره من الجبابرة؛ وكان ذلك على طريق التعريض، وكان أبلغ‏.‏ والتكبر‏:‏ تعاظم الإنسان في نفسه مع حقارته، لأنه يفعل ولا يؤمن بيوم الحساب، أي بالجزاء، وكان ذلك آكد في جراءته، إذ حصل له التعاظم في نفسه، وعدم المبالاة بما ارتكب‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ عدت بالإدغام؛ وباقي السبعة‏:‏ بالإظهار‏.‏ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، قيل‏:‏ كان قبطياً ابن عم فرعون، وكان يجري مجرى ولي العهد، ومجرى صاحب الشرطة‏.‏

وقيل‏:‏ كان قبطياً ليس من قرابته‏.‏ وقيل‏:‏ قيل فيه من آل فرعون، لأنه كان في الظاهر على دينه ودين أتباعه‏.‏ وقيل‏:‏ كان إسرائيلياً وليس من آل فرعون، وجعل آل فرعون متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏يكتم إيمانه‏}‏، لا في موضع الصفة لرجل، كما يدل عليه الظاهر، وهذا فيه بعد، إذ لم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتجاسر عند فرعون بمثل ما تكلم به هذا الرجل‏.‏ وقد رد قول من علق من آل فرعون بيكتم، فإنه لا يقال‏:‏ كتمت من فلان كذا، إنما يقال‏:‏ كتمت فلاناً كذا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يكتمون الله حديثاً‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً *** وهمين هماً مستكناً وظاهرا

أحاديث نفس تشتكي ما يريبها *** وورد هموم لن يجدن مصادرا

أي‏:‏ كتمتك أحاديث نفس وهمين‏.‏ قيل‏:‏ واسمه سمعان‏.‏ وقيل‏:‏ حبيب‏.‏ وقيل‏:‏ حزقيل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏رجل‏}‏ بضم الجيم‏.‏ وقرأ عيسى، وعبد الوارث، وعبيد بن عقيل، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو‏:‏ بسكون، وهي لغة تميم ونجد‏.‏ ‏{‏أتقتلون رجلاً أن يقول‏}‏‏:‏ أي لأن يقول ‏{‏ربي الله‏}‏، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت لهم، كأنه قال‏:‏ أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها، وهي قوله‏:‏ ‏{‏ربي الله‏}‏، مع أنه ‏{‏قد جاءكم بالبينات من ربكم‏}‏‏:‏ أي من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده‏؟‏ وهذا استدراج إلى الاعتراف‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً، أي وقت أن يقول، والمعنى‏:‏ أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره‏؟‏ انتهى‏.‏ وهذا الذي أجازه من تقدير المضاف المحذوف الذي هو وقت لا يجوز، تقول‏:‏ جئت صياح الديك، أي وقت صياح الديك، ولا أجيء أن يصيح الديك، نص على ذلك النحاة، فشرط ذلك أن يكون المصدر مصرحاً به لا مقدراً، وأن يقول ليس مصدراً مصرحاً به‏.‏ ‏{‏بالبينات‏}‏‏:‏ بالدلائل على التوحيد، وهي التي ذكرها في طه والشعراء حالة محاورته له في سؤاله عن ربه تعالى‏.‏

ولما صرح بالإنكار عليهم، غالطهم بعد في أن قسم أمره إلى كذب وصدق، وأدّى ذلك في صورة احتمال ونصيحة، وبدأ في التقسيم بقوله‏:‏ ‏{‏وإن يك كاذباً فعليه كذبه‏}‏، مداراة منه وسالكاً طريق الإنصاف في القول، وخوفاً إذا أنك عليهم قتله أنه ممن يعاضده ويناصره، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شره، ويكون ذلك أدنى لتسليمهم‏.‏ ومعنى ‏{‏فعليه كذبه‏}‏‏:‏ أي لا يتخطاه ضرره‏.‏ ‏{‏وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم‏}‏، وهو يعتقد أنه نبي صادق قطعاً، لكنه أتى بلفظ بعض لإلزام الحجة بأسرها في الأمر، وليس فيه نفي أن يصيبهم كل ما يعدهم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ يصبكم بعض العذاب الذي يذكر، وذلك كان في هلاكهم، ويكون المعنى‏:‏ يصبكم القسم الواحد مما يعد به، وذلك هو بعض مما يعد، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعمة، وإن كفروا بالنقمة‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ بعض الذي يعدكم عذاب الدنيا، لأنه بعض عذاب الآخرة، ويصيرون بعد ذلك إلى النار‏.‏ وقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ بعض بمعنى كل، وأنشدوا عمرو بن شسيم القطامي‏:‏

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقال الزمخشري‏:‏ وذلك أنه حين فرض صادقاً، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه ‏{‏يصبكم بعض الذين يعدكم‏}‏، ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه وافياً فضلاً أن يتعصب له‏.‏ فإن قلت‏:‏ وعن أبي عبيدة أنه قسم البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد وهو‏:‏

تراك أمكنة إذا لم أرضها *** ويريك من بعض النفوس حمامها

قلت‏:‏ إن صحت الرواية عنه فقد حق في قول المازني في مسألة العافي كان أحفى من أن يفقه ما أقول له‏.‏ انتهى، ويعني أن أبا عبيدة خطأه الناس في اعتقاده أن بعضاً يكون بمعنى كل، وأنشدوا أيضاً في كون بعض بمعنى كل قول الشاعر‏:‏

إن الأمور إذا الأحداث دبرها *** دون الشيوخ في بعضها خللا

أي‏:‏ إذا رأى الأحداث، ولذلك قال دبرها ولم يقل دبروها، راعي المضاف المحذوف‏.‏ ‏{‏إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب‏}‏ فيه‏:‏ إشارة إلى علو شأن موسى، عليه السلام، وأن من اصطفاه الله للنبوة لا يمكن أن يقع منه إسراف ولا كذب، وفيه تعريض بفرعون، إذ هو غاية الإسراف على نفسه بقتل أبناء المؤمنين، وفي غاية الكذب، إذ ادّعى الإلهية والربوبية، ومن هذا شأنه لا يهديه الله‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ الصديقون ثلاثة‏:‏ حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون، وعليّ بن أبي طالب ‏"‏ وفي الحديث‏:‏ «أنه عليه السلام، طاف بالبيت، فحين فرغ أخذ بمجامع ردائه، فقالوا‏:‏ له أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا‏؟‏ فقال‏:‏ أنا ذاك، فقام أبو بكر، رضي الله عنه، فالتزمه من ورائه وقال‏:‏ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم»، رافعاً صوته بذلك وعيناه تسفحان بالدموع حتى أرسلوه‏.‏ وعن جعفر الصادق‏:‏ أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرًّا، وأبو بكر قاله ظاهراً‏.‏ وقال السدي‏:‏ مسرف بالقتل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ مسرف بالكفر‏.‏ وقال صاحب التحرير والتحبير‏:‏ هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، والقوم على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له، وأنه من أتباعه، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال‏:‏ ‏{‏أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله‏}‏، ولم يذكر اسمه، بل قال رجلاً يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له، ‏{‏أن يقول ربي الله‏}‏، ولم يقل رجلاً مؤمناً بالله، أو هو نبي الله، إذ لو قال شيئاً من ذلك لعلموا أنه متعصب‏.‏

ولم يقبلوا قوله، ثم اتبعه بما بعد ذلك، فقدم قوله‏:‏ ‏{‏وإن يك كاذباً‏}‏، موافقة لرأيهم فيه‏.‏ ثم تلاه بقوله‏:‏ ‏{‏وإن يك صادقاً‏}‏، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم، لعلموا أنه متعصب، وأنه يزعم أنه نبي، وأنه يصدقه، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب‏}‏‏.‏ انتهى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يا قوم‏}‏ نداء متلطف في موعظتهم‏.‏ ‏{‏لكم الملك اليوم ظاهرين‏}‏‏:‏ أي عالمين‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏‏:‏ في أرض مصر، قد غلبتم بني إسرائيل فيها، وقهرتموهم واستعبدتموهم، وناداهم بالملك الذي هو أعظم مراتب الدنيا وأجهلها، وهو من جهة شهواتهم، وانتصب ظاهرين على الحال، والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور، وذو الحال هو ضمير لكم‏.‏ ثم حذرهم أن يفسدوا على أنفسهم بأنه إن جاءهم بأس الله لم يجدوا ناصراً لهم ولا دافعاً، وأدرج نفسه في قوله‏:‏ ‏{‏ينصرنا‏}‏، ‏{‏وجاءنا‏}‏ لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم أن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه‏.‏ وأقوال هذا المؤمن تدل على زوال هيبة فرعون من قلبه، ولذلك استكان فرعون وقال‏:‏ ‏{‏ما أريكم إلا ما أرى‏}‏‏:‏ أي ما أشير عليكم إلا بقتله، ولا أستصوب إلا ذلك، وهذا قول من لا تحكم له، وأتى بما وإلا للحصر والتأكيد‏.‏

‏{‏وما أهديكم إلا سبيل الرشاد‏}‏، لا ما تقولونه من ترك قتله وقد كذب، بل كان خائفاً وجلاً، وقد علم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق، ولكنه كان يتجلد، ويرى ظاهره خلاف ما أبطن‏.‏ وأورد الزمخشري وابن عطية وأبو القاسم الهذلي هنا أن معاذ بن جبل قرأ الرشاد بشد الشين‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ وهو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي رشد، فهو كعباد من عبد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو من رشد، كعلام من علم‏.‏ وقال النحاس‏:‏ هو لحن، وتوهمه من الفعل الرباعي، ورد عليه أنه لا يتعين أن يكون من الرباعي، بل هو من الثلاثي، على أن بعضهم قد ذهب إلى أنه من الرباعي، فبنى فعال من أفعل، كدراك من أدرك، وسآر من أسأر، وجبار من أجبر، وقصار من أقصر، ولكنه ليس بقياس، فلا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة، وفعال من الثلاثي مقيس فحمل عليه‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ كان معاذ بن جبل يفسرها بسبيل الله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويبعد عندي على معاذ رضي الله عنه‏.‏ وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله‏؟‏ وتعلق بناء اللفظ على هذا التأويل‏.‏ انتهى‏.‏ وإيراد الخلاف في هذا الحرف الذي هو من قول فرعون خطأ، وتركيب قول معاذ عليه خطأ، والصواب أن الخلاف فيه هو قول المؤمن‏:‏ ‏{‏اتبعون أهدكم سبيل الرشاد‏}‏‏.‏

قال أبو الفضل الرازي في ‏(‏كتاب اللوامح‏)‏ له من شواذ القراءات ما نصه‏:‏ معاذ بن جبل سبيل الرشاد، الحرف الثاني بالتشديد، وكذلك الحسن، وهو سبيل الله تعالى الذي أوضح الشرائع، كذلك فسره معاذ بن جبل، وهو منقول من مرشد، كدراك من مدرك، وجباز من مجبر، وقصار من مقصر عن الأمر، ولها نظائر معدودة، فأما قصار فهو من قصر من الثوب قصارة‏.‏ وقال ابن خالويه، بعد أن ذكر الخلاف في التناد وفي صد عن السبيل ما نصه‏:‏ سبيل الرشاد بتشديد الشين، معاذ بن جبل‏.‏ قال ابن خالويه‏:‏ يعني بالرشاد الله تعالى‏.‏ انتهى‏.‏ فهذا لم يذكر الخلاف إلا في قول المؤمن‏:‏ ‏{‏أهديكم سبيل الرشاد‏}‏، فذكر الخلاف فيه في قول فرعون خطأ، ولم يفسر معاذ بن جبل الرشاد أنه الله تعالى إلا في قول المؤمن، لا في قول فرعون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ذلك التأويل من قول فرعون وَهْمٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 40‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ‏(‏30‏)‏ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

الجمهور‏:‏ على أن هذا المؤمن هو الرجل القائل‏:‏ ‏{‏أتقتلون رجلاً‏}‏، قص الله أقاويله إلى آخر الآيات‏.‏ لما رأى ما لحق فرعون من الخور والخوف، أتى بنوع آخر من التهديد، وخوفهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من استئصال الهلاك حين كذبوا رسلهم، وقويت نفسه حتى سرد عليه ما سرد، ولم يهب فرعون‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل كلام ذلك المؤمن قد تم، وإنما أراد تعالى بالذي آمن بموسى، عليه السلام، واحتجوا بقوة كلامه، وأنه جنح معهم بالإيمان، وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك، ولم يكن كلام الأول الاعلانية لهم، وأفرد اليوم، إما لأن المعنى مثل أيام الأحزاب، أو أراد به الجمع، أي مثل أيام الأحزاب لأنه معلوم أن كل حزب كان له يوم‏.‏ و‏{‏الأحزاب‏}‏ الذين تحزبوا على أنبياء الله‏.‏ ‏{‏مثل دأب‏}‏، قال ابن عطية‏:‏ بدل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ عطف بيان‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ مثل يوم حزب ودأب عادتهم ودينهم في الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏وما الله يريد ظلماً للعباد‏}‏، أي إن إهلاكه إياهم كان عدلاً منه، وفيه مبالغة في نفي الظلم، حيث علقه بالإرادة‏.‏ فإذا نفاه عن الإرادة، كأن نفيه عن الوقوع أولى وأحرى‏.‏ ولما خوفهم أن يحل بهم في الدنيا ما حل بالأحزاب، خوفهم أمر الآخرة فقال، تعطفاً لهم بندائهم‏:‏ ‏{‏يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد‏}‏، وهو يوم الحشر‏.‏ والتنادي مصدر تنادي القوم‏:‏ أي نادى بعضهم بعضاً‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تنادوا فقالوا أردت الخيل فارساً *** فقلت أعند الله ذلكم الردى

وسمي يوم التنادي، إما لنداء بعضهم لبعض بالويل والثبور، وإما لتنادي أهل الجنة وأهل النار على ما ذكر في سورة الأعراف، وإما لأن الخلق ينادون إلى المحشر، وإما لنداء المؤمن‏:‏ ‏{‏هاؤم اقرؤا كتابيه‏}‏ والكافر‏:‏ ‏{‏يا ليتني لم أوت كتابية‏}‏ وقرأت فرقة‏:‏ التناد، بسكون الدال في الوصل أجراه مجرى الوقف وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، والكلبي، والزعفراني، وابن مقسم‏:‏ التناد، بتشديد الدال‏:‏ من ندَّ البعير اذا هرب‏.‏ كما قال ‏{‏يفر المرء من أخيه‏}‏ الآية وقال ابن عباس، وغيره‏:‏ في التناد خفيفة الدال هو التنادي، أي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا، وأنهم يفرون على وجوههم للفزع التي نالهم، وينادي بعضهم بعضاً‏.‏ وروي هذا التأويل عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون التذكر بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة‏.‏ انتهى‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

وبث الخلق فيها إذ دحاها *** فهم سكانها حتى التنادي

وفي الحديث‏:‏ «إن للناس جولة يوم القيامة يندّون»، يظنون أنهم يجدون مهرباً؛ ثم تلا‏:‏ ‏{‏يوم تولون مدبرين‏}‏، قال مجاهد‏:‏ معناه فارين‏.‏

وقال السدّي‏:‏ ‏{‏ما لكم من الله من عاصم‏}‏ في فراركم حتى تعذبوا في النار‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ما لكم في الانطلاق إليها من عاصم، أي مانع، يمنعكم منها، أو ناصر‏.‏ ولما يئس المؤمن من قبولها قال‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏‏.‏ ثم أخذ يوبخهم على تكذيب الرسل، بأن يوسف قد جاءهم بالبينات‏.‏ والظاهر أنه يوسف بن يعقوب، وفرعون هو فرعون موسى، وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ بل الجائي إليهم هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب، وأن فرعون هو فرعون، غير فرعون موسى‏.‏ و‏{‏بالبينات‏}‏‏:‏ بالمعجزات‏.‏ فلم يزالوا شاكين في رسالته كافرين، حتى إذا توفى، ‏{‏قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً‏}‏‏.‏ وليس هذا تصديقاً لرسالته، وكيف وما زالوا في شك منه، وإنما المعنى‏:‏ لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول، ونفي بعثته‏.‏ وقرئ‏:‏ ألن يبعث، بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضاً على نفي البعثة‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏‏:‏ أي مثل إضلال الله إياكم، أي حين لم تقبلوا من يوسف، ‏{‏يضل الله من هو مسرف مرتاب‏}‏‏:‏ يعنيهم، إذ هم المسرفون المرتابون في رسالات الأنبياء‏.‏

وجوزوا في ‏{‏الذين يجادلون‏}‏ أن تكون صفة لمن، وبدلاً منه‏:‏ أي معناه جمع ومبتدأ على حذف مضاف، أي جدال الذين يجادلون، حتى يكون الضمير في ‏{‏كبر‏}‏ عائداً على ذلك أولاً، أو على حذف مضاف، والفاعل بكبر ضمير يعود على الجدل المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏يجادلون‏}‏، أو ضمير يعود على من على لفظها، على أن يكون الذين صفة، أو بدلاً أعيد أولاً على لفظ من في قوله‏:‏ ‏{‏هو مسرف كذاب‏}‏‏.‏ ثم جمع الذين على معنى من، ثم أفرد في قوله‏:‏ ‏{‏كبر‏}‏ على لفظ من‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويحتمل أن يكون ‏{‏الذين يجادلون‏}‏ مبتدأ وبغير ‏{‏سلطان أتاهم‏}‏ خبراً، وفاعل ‏{‏كبر‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏، أي ‏{‏كبر مقتاً‏}‏ مثل ذلك الجدال، و‏{‏يطبع الله‏}‏ كلام مستأنف، ومن قال ‏{‏كبر مقتاً، عند الله‏}‏ جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه‏.‏ انتهى، وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح، فكيف في كلام الله‏؟‏ لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض، وارتكاب مذهب الصحيح خلافه‏.‏ أما تفكيك الكلام، فالظاهر أن بغير سلطان متعلق بيجادلون، ولا يتعقل جعله خبراً للذين، لأنه جار ومجرور، فيصير التقدير‏:‏ ‏{‏الذين يجادلون في آيات الله‏}‏‏:‏ كائنونن، أو مستقرون، ‏{‏بغير سلطان‏}‏، أي في غير سلطان، لأن الباء إذا ذاك ظرفية خبر عن الجثة، وكذلك في قوله ‏{‏يطبع‏}‏ أنه مستأنف فيه تفكيك الكلام، لأن ما جاء في القرآن من ‏{‏كذلك يطبع‏}‏، أو نطبع، إنما جاء مربوطاً بعضه ببعض، فكذلك هنا‏.‏ وأما ارتكاب مذهب الصحيح خلافه، فجعل الكاف اسماً فاعلاً بكبر، وذلك لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش، ولم يثبت في كلام العرب، أعني نثرها‏:‏ جاءني كزيد، تريد‏:‏ مثل زيد، فلم تثبت اسميتها، فتكون فاعلة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ومن قال لي آخره، فإنّ قائل ذلك وهو الحوفي، والظن به أنه فسر المعنى ولم يرد الإعراب‏.‏ وأما تفسير الإعراب أن الفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون، كما قالوا‏:‏ من كذب كان شراً له، أي كان هو، أي الكذب المفهوم من كذب‏.‏ والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر، والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون، وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه، ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب، لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، وإبراز ذلك في صورة تذكيرهم، ولا يفجأهم بالخطاب‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏كبر مقتاً‏}‏ ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم والشهادة على خروجه عن حدّ إشكاله من الكبائر‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏‏:‏ أي مثل ذلك الطبع على قلوب المجادلين، ‏{‏يطبع الله‏}‏‏:‏ أي يحتم بالضلالة ويحجب عن الهدى‏.‏ وقرأ أبو عمرو بن ذكوان، والأعرج، بخلاف عنه‏:‏ قلب بالتنوين، وصف القلب بالتكبر والجبروت، لكونه مركزهما ومنبعهما، كما يقولون‏:‏ رأت العين، وكما قال‏:‏ ‏{‏فإنه آثم قلبه‏}‏ والإثم‏:‏ الجملة، وأجاز الزمخشري أن يكون على حذف المضاف، أي على كل ذي قلب متكبر، بجعل الصفة لصاحب القلب‏.‏ انتهى، ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ قلب متكبر بالإضافة، والمضاف فيه العام عام، فلزم عموم متكبر جبار‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ المتكبر‏:‏ المعاند في تعظيم أمر الله، والجبار المسلط على خلق الله‏.‏

‏{‏وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً‏}‏، أقوال فرعون‏:‏ ‏{‏ذروني أقتل موسى، ما أريكم إلا ما أرى، يا هامان ابن لي صرحاً‏}‏، حيدة عن محاجة موسى، ورجوع إلى أشياء لا تصح، وذلك كله لما خامره من الجزع والخوف وعدم المقاومة، والتعرف أن هلاكه وهلاك قومه على يد موسى، وأن قدرته عجزت عن التأثير في موسى، هذا على كثرة سفكه الدماء‏.‏ وتقدم الكلام في الصرح في سورة القصص فأغنى عن إعادته‏.‏ قال السدي‏:‏ الأسباب‏:‏ الطرق‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الأبواب؛ وقيل‏:‏ عنى لعله يجد، مع قربه من السماء، سبباً يتعلق به، وما أداك إلى شيء فهو سبب، وأبهم أولاً الأسباب، ثم أبدل منها ما أوضحها‏.‏ والإيضاح بعد الإبهام يفيد تفخيم الشيء، إذ في الإبهام تشوق للمراد، وتعجب من المقصود، ثم بالتوضيح بحصل المقصود ويتعين‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ فأطلع رفعاً، عطفاً على أبلغ، فكلاهما مترجي‏.‏ وقرأ الأعرج، وأبو حيوة، وزيد بن علي، والزعفراني، وابن مقسم، وحفص‏:‏ فأطلع، بنصب العين‏.‏ وقال أبو القاسم بن جبارة، وابن عطية‏:‏ على جواب التمني‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ على جواب الترجي، تشبيهاً للترجي بالتمني‏.‏ انتهى‏.‏ وقد فرق النحاة بين التمني والترجي، فذكروا أن التمني يكون في الممكن والممتنع، والترجي يكون في الممكن‏.‏

وبلوغ أسباب السموات غير ممكن، لكن فرعون أبرز ما لا يمكن في صورة الممكن تمويهاً على سامعيه‏.‏ وأما النصب بعد الفاء في جواب الترجي فشيء أجازه الكوفيون ومنعه البصريون، واحتج الكوفيون بهذه القراءة وبقراءة عاصم، فتنفعه الذكرى في سورة عبس، إذ هو جواب الترجي في قوله‏:‏ ‏{‏لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى‏}‏ وقد تأولنا ذلك على أن يكون عطفاً على التوهم، لأن خبر لعل كثيراً جاء مقروناً بأن في النظم كثيراً، وفي النثر قليلاً‏.‏ فمن نصب، توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبراً كان منصوباً بأن، والعطف على التوهم كثير، وإن كان لا ينقاس، لكن إن وقع شيء وأمكن تخريجه عليه خرج، وأما هنا، فأطلع، فقد جعله بعضهم جواباً للأمر، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ابن لي صرحاً‏}‏، كما قال الشاعر‏:‏

يا ناق سيري عنقاً فسيحاً *** إلى سليمان فنستريحا

ولما قال‏:‏ ‏{‏فأطلع إلى إله موسى‏}‏، كان ذلك إقراراً بإله موسى، فاستدرك هذا الإقرار بقوله‏:‏ ‏{‏وإني لأظنه كاذباً‏}‏‏:‏ أي في ادعاء الإلهية، كما قال في القصص‏:‏ ‏{‏لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين‏}‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي مثل ذلك التزيين في إيهام فرعون أنه يطلع إلى إله موسى‏.‏ ‏{‏زين لفرعون سوء عمله‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏زين لفرعون‏}‏ مبنياً للمفعول؛ وقرئ‏:‏ زين مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وصد‏}‏ مبنياً للفاعل‏:‏ أي وصد فرعون؛ والكوفيون‏:‏ بضم الصاد مناسباً لزين مبنياً للمفعول؛ وابن وثاب‏:‏ بكسر الصاد، أصله صدد، نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها؛ وابن إسحاق، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، بفتح الصاد وضم الدال، منونة عطفاً على ‏{‏سوء عمله‏}‏‏.‏ والتباب‏:‏ الخسران، خسر ملكه في الدنيا فيها بالغرق، وفي الآخرة بخلود النار، وتكرر وعظ المؤمن إثر كلام فرعون بندائه قومه مرتين، متبعاً كل نداء بما فيه زجر واتعاظ لو وجد من يقبل، وأمر هنا باتباعه لأن يهديهم سبيل الرشاد‏.‏ وقرأ معاذ بن جبل‏:‏ بشد الشين، وتقدم الكلام على ذلك‏.‏ والرد على من جعل هذه القراءة في كلام فرعون، وأجمل أولاً في قوله‏:‏ ‏{‏سبيل الرشاد‏}‏، وهو سبيل الإيمان بالله واتباع شرعه‏.‏ ثم فسر، فافتتح بذم الدنيا وبصغر شأنها، وأنها متاع زائل، هي ومن تمتع بها، وأن الآخرة هي دار القرار التي لا انفكاك منها، إما إلى جنة، وإما إلى نار‏.‏ وكذلك قال‏:‏ ‏{‏من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها‏}‏‏.‏ وقرأ أبو رجاء، وشيبة، والأعمش، والإخوان، والصاحبان، وحفص‏:‏ ‏{‏يدخلون‏}‏ مبنياً للفاعل، وباقي السبعة، والأعرج، والحسن، وأبو جعفر، وعيسى‏:‏ مبنياً للمفعول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 52‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

بدأ المؤمن بذكر المتسبب عن دعوتهم، وأبدى التفاضل بينهما‏.‏ ولما ذكر المسببين، ذكر سببهما، وهو دعاؤهم إلى الكفر والشرك، ودعاؤه إياهم إلى الإيمان والتوحيد‏.‏ وأتى بصيغة العزيز، وهو الذي لا نظير له، والغالب الذي العالم كلهم في قبضته يتصرف فيهم كما يشاء، الغفار لذنوب من رجع إليه وآمن به، وأوصل سبب دعائهم بمسببه، وهو الكفر والنار، وأخر سبب مسببه ليكون افتتاح كلامه واختتامه بما يدعو إلى الخير‏.‏ وبدأ أولاً بجملة اسمية، وهو استفهام المتضمن التعجب من حالتهم، وختم أيضاً بجملة اسمية ليكون أبلغ في توكيد الأخبار‏.‏ وجاء في حقهم ‏{‏وتدعونني‏}‏ بالجملة الفعلية التي لا تقتضي توكيداً، إذ دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، فتؤكد‏.‏ و‏{‏ما ليس ي به علم‏}‏ هي الأوثان، أي لم يتعلق به علمي، إذ ليس لها مدخل في الألوهية ولا لفرعون‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ لم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني‏؟‏ قلت‏:‏ لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة‏.‏ انتهى‏.‏ وتقدم الكلام على لا جرم‏.‏

وقال الزمخشري هنا، وروي عن العرب‏:‏ لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء، يريد لا بد، وفعل وفعل أخوان، كرشد ورشد، وعدم وعدم‏.‏ ‏{‏أنما‏}‏‏:‏ أي أن الذي تدعونني إليه، أي إلى عبادته، ‏{‏ليس له دعوة‏}‏، أي قدر وحق يجب أن يدعى إليه، أو ليس له دعوة إلى نفسه، لأن الجماد لا يدعو، والمعبود بالحق يدعو العباد إلى طاعته، ثم يدعو العباد إليها إظهاراً لدعوة ربهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى ليس له استجابة دعوة توجب الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة، أو دعوة مستجابة جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة، كما سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قوله‏:‏ كما تدين تدان‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ليست له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة، وكان فرعون أولاً يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، ثم دعاهم إلى عبادة البقر، وكانت تعبد ما دامت شابة، فإذا هزلت أمر بذبحها ودعا بأخرى لتعبد‏.‏ فلما طال عليه الزمان قال‏:‏ ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ ولما ذكر انتفاء دعوة ما عبد من دون الله وذكر أن مرد الجميع إلى الله، أي إلى جزائه، ‏{‏وأن المسرفين‏}‏‏:‏ وهم المشركون في قول قتادة، والسفاكون للدماء بغير حلها في قول ابن مسعود ومجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ من غلب شره خيره هو المسرف‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هم الجبارون المتكبرون‏.‏ وختم المؤمن كلامه بخاتمة لطيفة توجب التخويف والتهديد وهي قوله‏:‏ ‏{‏فستذكرون ما أقول لكم‏}‏‏:‏ أي إذا حل بكم عقاب الله‏.‏

‏{‏وأفوّض أمري‏}‏ إلى قضاء الله وقدره، لا إليكم ولا إلى أصنامكم، وكانوا قد توعدوه‏.‏ ثم ذكر ما يوجب التفويض، وهو كونه تعالى بصيراً بأحوال العباد وبمقادير حاجاتهم‏.‏

قال مقاتل‏:‏ لما قال هذه الكلمات، قصدوا قتله؛ فهرب هذا المؤمن إلى الجبل، فلم يقدروا عليه‏.‏ وقيل‏:‏ لما أظهر إيمانه، بعث فرعون في طلبه ألف رجل؛ فمنهم من أدركه، فذب السباع عنه وأكلتهم السباع، ومنهم من مات في الجبال عطشاً، ومنهم من رجع إلى فرعون خائباً، فاتهمه وقتله وصلبه‏.‏ وقيل‏:‏ نجا مع موسى في البحر، وفر في جملة من فر معه‏.‏ ‏{‏فوقاه الله سيئات مامكروا‏}‏‏:‏ أي شدائد مكرهم التي تسوؤه، وما هموا به من أنواع العذاب لمن خالفهم‏.‏ ‏{‏وحاق بآل فرعون سوء العذاب‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ هو ما حاق بالألف الذين بعثهم فرعون في طلب المؤمن، من أكل السباع، والموت بالعطش، والقتل والصلب، كما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏سوء العذاب‏}‏‏:‏ هو الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة‏.‏ ‏{‏النار‏}‏ بدل من ‏{‏سوء العذاب‏}‏، أو خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل‏:‏ ما سوء العذاب‏:‏ قيل‏:‏ النار، أو مبتدأ خبره ‏{‏يعرضون‏}‏، ويقوي هذا الوجه قراءة من نصب، أي تدخلون النار يعرضون عليها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن ينصب على الاختصاص‏.‏

والظاهر أن عرضهم على النار مخصوص بهذين الوقتين، ويجوز أن يراد بذكر الطرفين الدوام في الدنيا، والظاهر أن العرض خلاف الإحراق‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ عرضهم عليها‏:‏ إحراقهم بها، يقال‏:‏ عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به‏.‏ انتهى، والظاهر أن العرض هو في الدنيا‏.‏ وروي ذلك عن الهذيل بن شرحبيل، وعن ابن مسعود والسدي‏:‏ أن أرواحهم في جوف طيور سود، تروح بهم وتغدوا إلى النار‏.‏ وقال رجل للأوزاعي‏:‏ رأيت طيوراً بيضاً تغدوا من البحر، ثم تروح بالعشي سوداً مثلها، فقال الأوزاعي‏:‏ تلك التي في حواصلها أرواح آل فرعون، يحرق رياشها وتسود بالعرض على النار‏.‏ وقال محمد بن كعب وغيره‏:‏ أراد أنهم يعرضون في الآخرة على تقدير ما بين الغدوّ والعشي، إذ لا غدوّ ولا عشي في الآخرة، وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا‏.‏ وعن ابن مسعود‏:‏ تعرض أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار على النار بالغداة والعشي، يقال‏:‏ هذه داركم‏.‏

وفي صحيح البخاري، ومسلم، من حديث ابن عمران، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» واستدل مجاهد ومحمد بن كعب وعكرمة ومقاتل بقوله‏:‏ ‏{‏النار يعرضون عليها غدوًّا وعشياً‏}‏‏:‏ أي عند موتهم على عذاب القبر في الدنيا‏.‏ والظاهر تمام الجملة عند قوله‏:‏ ‏{‏وعشياً‏}‏، وأن يوم القيامة معمول لمحذوف على إضمار القول، أي ويوم القيامة يقال لهم‏:‏ ادخلوا‏.‏

وقيل‏:‏ ويوم معطوف على وعشياً، فالعامل فيه يعرضون، وأدخلوا على إضمار الفعل‏.‏ وقيل‏:‏ العامل في يوم أدخلوا‏.‏ وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش، وابن وثاب، وطلحة، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص‏:‏ أدخلوا، أمراً للخزنة من أدخل‏.‏ وعليّ، والحسن، وقتادة، وابن كثير، والعربيان، وأبو بكر‏:‏ أمراً من دخل آل فرعون أشد العذاب‏.‏ قيل‏:‏ وهو الهاوية‏.‏ قال الأوزاعي‏:‏ بلغنا أنهم ألفا ألف وستمائة ألف‏.‏

‏{‏وإذ يتحاجون في النار‏}‏‏:‏ الظاهر أن الضمير عائد على فرعون‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يتحاجون‏}‏ لجميع كفار الأمم، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون، والعامل في إذ فعل مضمر تقديره واذكروا‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وإذ هذه عطف على قوله‏:‏ ‏{‏إذ القلوب لدى الحناجر‏}‏، وهذا بعيد‏.‏ انتهى، والمحاجة‏:‏ التحاور بالحجة والخصومة‏.‏ والضعفاء‏:‏ أي في القدر والمنزلة في الدنيا‏.‏ والذين استكبروا‏:‏ أي عن الإيمان واتباع الرسل‏.‏ ‏{‏إنا كنا لكم تبعاً‏}‏‏:‏ أي ذوي تبع، فتبع مصدر أو اسم جمع لتابع، كآيم وأيم، وخادم وخدم، وغائب وغيب‏.‏ ‏{‏فهل أنتم مغنون عنا‏}‏‏:‏ أي حاملون عنا‏؟‏ فأجابوهم‏:‏ ‏{‏إنا كنا فيها‏}‏، وأن حكم الله قد نفذ فينا وفيكم، إنا مستمرون في النار‏.‏ وقرأ ابن المسيفع، وعيسى بن عمران‏:‏ كلا بنصب كل‏.‏ وقال الزمخشري، وابن عطية‏:‏ على التوكيد لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد‏:‏ إنا كلنا فيها‏.‏ انتهى‏.‏ وخبر إن هو فيها، ومن رفع كلا فعلى الابتداء، وخبره فيها، والجملة خبر إن‏.‏ وقال ابن مالك في تصنيفه ‏(‏تسهيل الفوائد‏)‏‏:‏ وقد تكلم على كل، ولا يستغنى بنية إضافته، خلافاً للفرّاء والزمخشري‏.‏ انتهى، وهذا المذهب منقول عن الكوفيين، وقد رد ابن مالك على هذا المذهب بما قرره في شرحه ‏(‏التسهيل‏)‏‏.‏ وقال الزمخشر‏:‏ فإن قلت‏:‏ هل يجوز أن يكون كلاً حالاً قد عمل فيها فيها‏؟‏ قلت‏:‏ لا، لأن الظرف لا يعمل، والحال متقدمة، كما يعمل في الظرف متقدماً، تقول‏:‏ كل يوم لك ثوب، ولا تقول‏:‏ قائماً في الدار زيد‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الذي منعه أجازه الأخفش إذا توسطت الحال، نحو‏:‏ زيد قائماً في الدار، وزيد قائماً عندك، والتمثيل الذي ذكره ليس مطابقاً في الآية، لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم، وهو اسم إن، وتوسطت الحال إذا قلنا إنها حال، وتأخر العامل فيها، وأما تمثيله بقوله‏:‏ ولا تقول قائماً في الدار زيد، تأخر فيه المسند والمسند إليه، وقد ذكر بعضهم أن المنع في ذلك إجماع من النحاة‏.‏ وقال ابن مالك‏:‏ والقول المرضي عندي أن كلاً في القراءة المذكورة منصوب على أن الضمير المرفوع المنوي في فيها، وفيها هو العامل، وقد تقدمت الحال عليه مع عدم تصرفه، كما قدمت في قراءة من قرأ‏:‏

‏{‏والسموات مطويات بيمينه‏}‏ وفي قول النابغة الذبياني‏:‏

رهط ابن كوز محقبي أدراعهم *** فيهم ورهط ربيعة بن حذار

وقال بعض الطائيين‏:‏

دعا فأجبنا وهو باديّ ذلة *** لديكم فكان النصر غير قريب

انتهى‏.‏ وهذا التخريج هو على مذهب الأخفش، كما ذكرناه، والذي أختاره في تخريج هذه القراءة أن كلاً بدل من اسم إن، لأن كلاً يتصرف فيهما بالابتداء ونواسخه وغير ذلك، فكأنه قال‏:‏ إن كلاً بدل من اسم إن، لأن كلاً فيها‏:‏ وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعاً ويوماً أجمعاً على البدل، مع أنهما لا يليان العوامل، فإن يدعى في كل البدل أولى، وأيضاً فتنكير كل ونصبه حالاً في غاية الشذوذ، والمشهور أن كلاً معرفة إذا قطعت عن الإضافة‏.‏ حكى‏:‏ مررت بكل قائماً، وببعض جالساً في الفصيح الكثير في كلامهم، وقد شذ نصب كل على الحال في قولهم‏:‏ مررت بهم كلاً، أي جميعاً‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف يجعله بدلاً، وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم، وهو لا يجوز على مذهب البصريين‏؟‏ قلت‏:‏ مذهب الأخفش والكوفيين جوازه، وهو الصحيح، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف، بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة، جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب، لا نعلم خلافاً في ذلك، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا‏}‏ وكقولك‏:‏ مررت بكم صغيركم وكبيركم، معناه‏:‏ مررت بكم كلكم، وتكون لنا عيداً كلنا‏.‏ فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة، فجوازه فيما دل على الإحاطة، وهو كل أولى، ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه، لأنه بدل من ضمير المتكلم، لأنه لم يتحقق مناط الخلاف‏.‏

ولما أجاب الضعفاء المستكبرون قالوا جميعاً‏:‏ ‏{‏لخزنة جهنم‏}‏، وأبرز ما أضيف إليه الخزنة، ولم يأت ضميراً، فكان يكون التركيب لخزنتها، لما في ذكر جهنم من التهويل، وفيها أطغى الكفار وأعتاهم‏.‏ ولعل الكفار توهموا أن ملائكة جهنم الموكلين بعذاب تلك الطغاة هم أقرب منزلة عند الله من غيرهم من الملائكة الموكلين ببقية دركات النار، فرجوا أن يجيبوهم ويدعوا لهم بالتخفيف، فراجعتهم الخزنة على سبيل التوبيخ لهم والتقرير‏:‏ ‏{‏أوَلم تك تأتيكم رسلكم بالبينات‏}‏، فأجابوا بأنهم أتتهم، ‏{‏قالوا‏}‏‏:‏ أي الخزنة، ‏{‏فادعوا‏}‏ أنتم على معنى الهزء بهم، أو فادعوا أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏}‏ من كلام الخزنة‏:‏ أي دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي‏.‏ وقيل‏:‏ هو من كلام الله تعالى إخباراً منه لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وجاءت هذه الأخبار معبراً عنها بلفظ الماضي الواقع لتيقن وقوعها‏.‏

ثم ذكر تعالى أنه ينصر رسله ويظفرهم بأعدائهم، كما فعل بموسى عليه السلام، حيث أهلك عدوّه فرعون وقومه، وفيه تبشير للرسول عليه السلام بنصره على قومه، ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏، العاقبة الحسنة لهم، ‏{‏ويوم يقوم الأشهاد‏}‏‏:‏ وهو يوم القيامة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ينصرهم بالغلبة، وفي الآخرة بالعذاب‏.‏ وقال السدّي‏:‏ بالانتقام من أعدائهم‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ بإفلاح حجتهم‏.‏ وقال السدّي أيضاً‏:‏ ما قتل قوم قط نبيًّا أو قوماً من دعاة الحق إلا بعث الله من ينتقم لهم، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا‏.‏ انتهى‏.‏ ألا ترى إلى قتلة الحسين، رضي الله عنه، كيف سلط الله عليهم المختار بن عبيد يتبعهم واحداً واحداً حتى قتلهم‏؟‏ وبختنصر تتبع اليهود حين قتلوا يحيى بن زكريا، عليهما السلام‏؟‏ وقيل‏:‏ والنصر خاص بمن أظهره الله تعالى على أمّته، كنوح وموسى ومحمد عليهم السلام، لأنا نجد من الأنبياء من قتله قومه، كيحيى، ومن لم ينصر عليهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ الخبر عام، وذلك أن نصرة الرسل والأنبياء واقعة ولا بد، إما في حياة الرسول المنصور، كنوح وموسى عليهما السلام، وإما بعد موته‏.‏ ألا ترى إلى ما صنع الله تعالى ببني إسرائيل بعد قتلهم يحيى عليه السلام من تسليط بختنصر حتى انتصر ليحيى عليه السلام‏؟‏ وقرأ الجمهور‏:‏ يقوم بالياء؛ وابن هرمز، وإسماعيل، والمنقري عن أبي عمرو‏:‏ بتاء التأنيث‏.‏ الجماعة والأشهاد، جمع شهيد، كشريف وأشراف، أو جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً‏}‏ والظاهر أنه من الشهادة‏.‏ وقيل‏:‏ من المشاهدة، بمعنى الحضور‏.‏ ‏{‏يوم لا ينفع‏}‏‏:‏ بدل من يوم ‏{‏يقوم‏}‏‏.‏ وقرئ‏:‏ تنفع بالتاء وبالياء، وتقدم ذكر الخلاف في ذلك في آخر الروم، ويحتمل أنهم يعتذرون ولا تقبل معذرتهم، أو أنهم لا معذرة لهم فتقبل‏.‏ ‏{‏ولهم اللعنة‏}‏ والإبعاد من الله‏.‏ ‏{‏ولهم سوء الدار‏}‏‏:‏ سوء عاقبة الدار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 65‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

ولما ذكر ما حل بآل فرعون، واستطرد من ذلك إلى ذكر شيء من أحوال الكفار في الآخرة، عاد إلى ذكر ما منح رسوله موسى عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الهدى‏}‏ تأنيساً لمحمد عليه السلام، وتذكيراً لما كانت العرب تعرفه من قصة موسى عليه السلام‏.‏ والهدى، يجوز أن يكون الدلائل التي أوردها على فرعون وقومه، وأن يكون النبوة، وأن يكون التوراة‏.‏ ‏{‏وأورثنا بني إسرائيل الكتاب‏}‏‏:‏ الظاهر أنه التوراة، توارثوها خلف عن سلف، ويجوز أن يكون الكتاب أريد به‏:‏ ما أنزل على بني إسرائيل من كتب أنبيائهم، كالتوراة والزبور والإنجيل، ‏{‏هدى‏}‏ ودلالة على الشيء المطلوب، ‏{‏وذكرى‏}‏ لما كان منسياً فذكر به تعالى في كتبه‏.‏ وانتصب ‏{‏هدى وذكرى‏}‏ على أنهما مفعولان له، أو على أنهما مصدران في موضع الحال‏.‏

ثم أمر تعالى نبيه بالصبر فقال‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق‏}‏، من قوله‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا‏}‏، فلا بد من نصرك على أعدائك‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ نسخ هذا بآية السيف‏.‏ ‏{‏واستغفر لذنبك‏}‏، قال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون قبل إعلام الله تعالى إياه أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لأن آية هذه السورة مكية، وآية سورة الفتح مدنية متأخرة، ويحتمل أن يكون الخطاب له في هذه الآية، والمراد أنه إذا أمر هو بهذا فغيره أحرى بامتثاله‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ محمول على التوبة من ترك الأفضل والأولى‏.‏ وقيل‏:‏ المقصود منه محض تعبد، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏ فإن إيتاء ذلك الشيء واجب، ثم إنه أمرنا بطلبه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لذنبك‏}‏‏:‏ لذنب أمتك في حقك‏.‏ قيل‏:‏ فأضاف المصدر للمفعول، ثم أمره بتنزيهه تعالى في هذين الوقتين اللذين الناس مشتغلون فيهما بمصالحهم المهمة‏.‏ ويجوز أن يكون المراد سائر الأوقات، وعبر بالظرفين عن ذلك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أراد بذلك الصلوات الخمس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ صلاة الغداة، وصلاة العصر‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ركعتان قبل أن تفرض الصلاة‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ صلاة العصر، وصلاة الصبح‏.‏ والظاهر أن المجادلين في آيات الله، وهي دلائله التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة، وما أظهر على يد أنبيائه من الخوارق، هم كفار قريش والعرب‏.‏ ‏{‏بغير سلطان‏}‏‏:‏ أي حجة وبرهان‏.‏ ‏{‏في صدورهم إلا كبر‏}‏‏:‏ أي تكبر وتعاظم، وهو إرادة التقدم والرياسة، وذلك هو الحامل على جدالهم بالباطل، ودفعهم ما يجب لك من تقدمك عليهم، لما منحك من النبوة وكلفك من أعباء الرسالة‏.‏ ‏{‏ما هم ببالغيه‏}‏‏:‏ أي ببالغي موجب الكبر ومقتضيه من رياستهم وتقدمهم، وفي ذلك إشارة إلى أنهم لا يرأسون، ولا يحصل لهم ما يؤملونه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر، لأن الله أذلهم وقال ابن عطية‏:‏ تقديره مبالغي إرادتهم فيه‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ هي في اليهود‏.‏

قال مقاتل‏:‏ عظمت اليهود الدجال وقالوا‏:‏ إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله سلطان، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يجادلون في آيات الله‏}‏، لأن الدجال من آياته، ‏{‏بغير سلطان‏}‏‏:‏ أي حجة، ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ من فتنة الدجال‏.‏ والمراد بخلق الناس الدجال، وإلى هذا ذهب أبو العالية، وهذا القول أصح‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقيل المجادلون هم اليهود، وكانوا يقولون‏:‏ يخرج صاحبنا المسيح بن داود، يريدون الدجال، ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله، فيرجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيتهم ذلك كبراً، ونفى أن يبلغوا متمناهم‏.‏ انتهى‏.‏ وكان رئيس اليهود في زمانه في مصر موسى بن ميمون الأندلسي القرطبي قد كتب رسالته إلى يهود اليمن أن صاحبهم يظهر في سنة كذا وخمسمائة، وكذب عدوّ الله‏.‏ جاءت تلك السنة وسنون بعدها كثيرة، ولم يظهر شيء مما قاله، لعنه الله‏.‏ وكان هذا اليهودي قد أظهر الإسلام، حتى استسلم اليهود بعض ملوك المغرب، ورجل من الأندلس‏.‏ فيذكر أنه صلى بالناس التراويح وهم على ظهر السفينة في رمضان، إذ كان يحفظ القرآن‏.‏ فلما قدم مصر، وكان ذلك في دولة العبيديين، وهم لا يتقيدون بشريعة، رجع إلى اليهودية وأخبر أنه كان مكرهاً على الإسلام، فقبل منه ذلك، وصنف لهم تصانيف، ومنها‏:‏ ‏(‏كتاب دلالة الحائرين‏)‏، وإنما استفاد ما استفاد من مخالطة علماء الأندلس وتودده لهم، والرياسة إلى الآن بمصر لليهود في كل من كان من ذريته‏.‏ ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏‏:‏ أي التجيء إليه من كيد من يحسدك‏.‏ ‏{‏إنه هو السميع‏}‏ لما تقول ويقولون، ‏{‏البصير‏}‏ بما تعمل ‏{‏ويعملون‏}‏، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم‏.‏

ثم نبه تعالى أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الانسان بقوله ‏{‏لخلق السموات والأرض أكبرمن خلق الناس‏}‏‏:‏ أي إن المخلوقات أكبر واجل من خلق البشر، فما لأحد يجادل ويتكبر على خلقه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وجادلتهم في آية الله كان مشتملة على انكار البعث وهو اصل المجادلة ومدارها، فجحدوا بخلق السموات والأرض، لأنهم كانوا مقرنين بأن الله خالقها، وبأنها خلق عظيم لا يقدر قدره، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها على خلق الإنسان مهانته أقدر، وهو أبلغ من الإستشهاد بخلق مثله انتهى‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون الكلام في معنى البعث والإعادة، فأعلم تعالى أن ا الذي خلق السموات والأرض قوي قادر على خلق الناس تارة أخرى، فالخلق مصدر أضيف إلى المفعول، وقال النقاش‏:‏ المعنى مما خلق الناس، إذا هم في الحقيقة لا يملكون شيئاً، فالخلق مضاف للفاعل‏.‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏‏:‏ أي لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم، ونفي العلم عن الأكثر وتخصيصه به يدل على أن القليل يعلم، ولذلك ضرب مثلاً للجاهل بالأعمى، وللعالم بالبصير، وانتفاء الاستواء بينهما هو من الجهة الدالة على العمى وعلى البصر، وإلا فهما مستويان في غير ما شيء‏.‏

ولما بعد، قسم الذين آمنوا بطول صلة الموصول، كرر لا توكيداً، وقدم ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ المجاورة قوله‏:‏ ‏{‏والبصير‏}‏، وهما طريقان، أحدهما‏:‏ أن يجاور المناسب هكذا، والآخر‏:‏ أن يتقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور‏}‏ وقد يتأخر المتماثلان، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع‏}‏ وكل ذلك تفنن في البلاغة وأساليب الكلام‏.‏ ولما كان قد تقدم‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر النار لا يعلمون‏}‏، فكان ذلك صفة ذم ناسب أن يبدأ في ذكر التساوي بصفة الذم، فبدأ بالأعمى‏.‏ وقرأ قتادة، وطلحة، وأبو عبد الرحمن، وعيسى، والكوفيون‏:‏ تتذكرون بتاء الخطاب؛ والجمهور، والأعرج، والحسن، وأبو جعفر، وشيبة‏:‏ بالياء على الغيبة‏.‏ ثم أخبر بما يدل على البعث من إتيان الساعة، وأنه لا ريب في وقوعها، وهو يوم القيامة، حيث الحساب وافتراق الجمع إلى الجنة طائعهم، وإلى النار كافرهم ومن أراد الله تعذيبه من العصاة بغير الكفر‏.‏ والظاهر حمل الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، إلا أن الاستجابة مقيدة بمشيئة الله‏.‏

قال السدي‏:‏ اسألوني أعطكم؛ وقال الضحاك‏:‏ أطيعوني آتكم؛ وقالت فرقة منهم مجاهد‏:‏ ادعوني، اعبدوني وأستجب لكم، آتيكم على العبادة‏.‏ وكثيراً جاء الدعاء في القرآن بمعنى العبادة، ويقوي هذا التأويل قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏}‏‏.‏ وما روى النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الدعاء هو العبادة»، وقرأ هذه الآية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وحدوني أغفر لكم؛ وقيل للثوري‏:‏ ادع الله تعالى، فقال‏:‏ إن ترك الذنوب هو الدعاء‏.‏ وقال الحسن، وقد سئل عن هذه الآية‏:‏ اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله‏.‏ وقال أنس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله» ‏{‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏}‏‏:‏ أي عن دعائي‏.‏ وقرأ جمهور السبعة، والحسن، وشيبة‏:‏ سيدخلون مبنياً للفاعل؛ وزيد بن علي، وابن كثير، وأبو جعفر‏:‏ مبنياً للمفعول؛ واختلف عن عاصم وأبي عمرو‏.‏ داخرين‏:‏ ذليلين‏.‏

‏{‏الله الذين جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً‏}‏‏:‏ تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في سورة يونس‏.‏ و‏{‏لذو فضل‏}‏‏:‏ أبلغ من‏:‏ لمفضل أو لمتفضل، كما قال ‏{‏لذو عمل‏}‏ لما علمناه ‏{‏لينفق ذو سعة من سعته‏}‏ ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ لما يؤدي إليه من كونه صاحبه ومتمكناً منه، بخلاف أن يؤتي بالصفة، فإنه قد يدل على غير الله بالاتصاف به في وقت ما، لا دائماً، وذكر عموم فضله وسوغه على الناس، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏، فأتى به ظاهراً، ولم يأت التركيب‏:‏ ولكن أكثرهم‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه، كقوله‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لكفور‏}‏ ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود‏}‏ ‏{‏إن الإنسان لظلوم كفار‏}‏ انتهى‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏‏:‏ أي المخصوص بتلك الصفات التميز بها من استجابته لدعائكم، ومن جعل الليل والنهار كما ذكر، ومن تفضله عليكم‏.‏ ‏{‏الله ربكم‏}‏‏:‏ الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وإنشاء الأشياء والوحدانية‏.‏ فكيف تصرفون عن عبادة من هذه أوصافه إلى عبادة الأوثان‏؟‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ خالق بنصب القاف، وطلحة في رواية‏:‏ يؤفكون بياء الغيبة والجمهور‏:‏ بضم القاف وتاء الخطاب‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ خالق نصباً على الاختصاص كذلك، أي مثل ذلك الصرف صرف الله قلوب الجاحدين بآيات الله من الأمم على طريق الهدى‏.‏

ولما ذكر تعالى ما امتن به من الليل والنهار، ذكر أيضاً ما امتن به من جعل الأرض مستقراً والسماء بناء، أي قبة، ومنه أبنية العرب لمضاربهم، لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ صوركم بضم الصاد، والأعمش، وأبو رزين‏:‏ بكسرها فراراً من الضمة قبل الواو استثقالاً، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها شاذ، وقالوا قوة وقوى بكسر القاف على الشذوذ أيضاً قيل‏:‏ لم يخلق حيواناً أحسن صورة من الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ لم يخلقهم منكوسين كالبهائم، كقوله‏:‏ ‏{‏في أحسن تقويم‏}‏ وقرأت فرقة‏:‏ صوركم بضم الصاد وإسكان الواو، على نحو بسرة وبسر، ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏‏:‏ امتن عليهم بما يقوم بأود صورهم والطيبات المستلذات طعماً ولباساً ومكاسب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من قال‏:‏ لا إله إلا الله، فليقل على أثرها‏:‏ ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏‏.‏ وقال نحوه سعيد بن جبير، ثم قرأ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 76‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

أمر الله تعالى نبيه، عليه السلام، أن يخبرهم بأنه نهى أن يعبد أصنامهم، لما جاءته البينات من ربه، فهذا نهي بالسمع، وإن كان منهياً بدلائل العقل، فتظافرت أدلة السمع وأدلة العقل على النهي عن عبادة الأوثان‏.‏ فمن أدلة السمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون‏}‏ إلى غير ذلك، وذكره أنه نهى بالسمع لا يدل على أنه كان منهياً بأدلة العقل‏.‏ ولما نهى عن عبادة الأوثان، أخبر أنه أمر بالاستسلام لله تعالى، ثم بين أمر الوحدانية والألوهية التي أصنامهم عارية عن شيء منهما، بالاعتبار في تدريج ابن آدم بأن ذكر مبدأه الأول، وهو من تراب‏.‏ ثم أشار إلى التناسل بخلقه من نطفة، والطفل اسم جنس، أو يكون المعنى‏:‏ ‏{‏ثم يخرجكم‏}‏، أي كل واحد منكم طفلاً، وتقدم الكلام على بلوغ الأشد‏.‏ و‏{‏من قبل‏}‏، قال مجاهد‏:‏ من قبل أن يكون شيخاً، قيل‏:‏ ويجوز أن يكون من قبل هذه الأحوال، إذا خرج سقطاً، وقيل‏:‏ عبارة بتردده في التدريج المذكور، ولا يختص بما قبل الشيخ، بل منهم من يموت قبل أن يخرج طفلاً، وآخر قبل الأشد، وآخر قبل الشيخ‏.‏ ‏{‏ولتبغلوا‏}‏‏:‏ متعلق بمحذوف، أي يبقيكم لتبلغوا، أي ليبلغ كل واحد منكم أجلاً مسمى لا يتعداه‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني موت الجميع، وقيل‏:‏ هو يوم القيامة‏.‏ و‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ ما في ذلك من العبرة والحجج، إذا نظرتم في ذلك وتدبرتم‏.‏

ولما ذكر، رتب الإيجاد، ذكر أنه المتصف بالإحياء والإمانة، وأنه متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أوجده من غير تأخر، وتقدم الكلام على مثل هذه الجمل‏.‏ ثم قال بعد ظهور هذه الآيات‏:‏ ألا تعجب إلى المجادل في آيات اله كيف يصرف عن الجدال فيها ويصير إلى الإيمان بها‏؟‏ والظاهر أنها في الفكار المجادلين في رسالة الرسول عليه السلام والكتاب الذي جاء به بدليل قوله‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا‏}‏، ثم هددهم بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏، وهذا قول الجمهور‏.‏ وقال محمد بن سيرين وغيره‏:‏ هي إشارة إلى أهل الأهواء من الأمة، ورووا في نحو هذا حديثاً وقالوا‏:‏ هي في أهل القدر ومن جرى مجراهم، ويلزم قائلي هذه المقالة أن يجعل قوله‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا‏}‏ كلاماً مستأنفاً في الكفار، ويكون ‏{‏الذين كذبوا‏}‏ مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏‏.‏ وأما على الظاهر، فالذين بدل من الذين، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوباً على الذم، وإذ ظرف لما مضى، فلا يعمل فيه المستقبل، كما لا يقول‏:‏ سأقوم أمس، فقيل‏:‏ إذا يقع موقع إذ، وأن موقعها على سبيل المجاز، فيكون إذ هنا بمعنى إذا، وحسن ذلك تيقن وقوع الأمر، وأخرج في صيغة الماضي، وإن كان المعنى على الاستقبال‏.‏

قال النخعي‏:‏ لو أن غلاًّ من أغلال جهنم وضع على جبل، لأ رحضة حتى يبلغ إلى الماء الأسود‏.‏ وقرأ‏:‏ والسلاسل عطفاً على الأغلال، يسحبون مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن علي، وابن وثاب، والمسيء في اختياره‏:‏ والسلاسل بالنصب على المفعول، يسحبون مبنياً للفاعل، وهو عطف جملة فعلية على جملة اسمية‏.‏ وقرأت فرقة منهم ابن عباس‏:‏ والسلاسل، بجر اللام‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ على تقدير، إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ، إذ ترتيبه فيه قلب، وهو على حد قول العرب‏:‏ أدخلت القلنسوة في رأسي، وفي مصحف أبيّ‏:‏ وفي السلاسل يسحبون‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ووجهه أنه لو قيل‏:‏ إذ أعناقهم في الأغلال، مكان قوله‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم‏}‏، لكان صحيحاً مستقيماً‏.‏ فلما كانتا عبارتين معتقبتين، حمل قوله‏:‏ ‏{‏والسلاسل‏}‏ على لعبارة الأخرى، ونظيره قول الشاعر‏:‏

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *** ولا ناعب إلا ببين غرابها

كأنه قيل‏:‏ بمصلحين‏.‏ وقرئ‏:‏ وبالسلاسل، انتهى، وهذا يسمى العطف على التوهم، ولكن توهم إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها، ونظير ذلك قول الشاعر‏:‏

أحدك لن ترى بثعيلبات *** ولا بيداء ناجية زمولا

ولا متدارك والليل طفل *** ببعض نواشع الوادي حمولا

التقدير‏:‏ لست براء ولا متدارك‏.‏ وهذا الذي قاله ابن عطية والزمخشري سبقهما إليه الفراء، قال‏:‏ من جر السلاسل حمله على المعنى، لأن المعنى‏:‏ أعناقهم في الأغلال والسلاسل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ من قرأ بحفص والسلاسل، فالمعنى عنده‏:‏ وفي السلاسل يسحبون‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ والخفض على هذا المعنى غير جائز، لو قلت‏:‏ زيد في الدار، لم يحسن أن تضمر في فتقول‏:‏ زيد الدار، ثم ذكر تأويل الفراء، وخرج القراءة ثم قال‏:‏ كما تقول‏:‏ خاصم عبد الله زيداً العاقلين، بنصب العاقلين ورفعه، لأن أحدهما إذا خاصمه صاحبه فقد خاصمه الآخر‏.‏ انتهى، وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين، وهي منقول جوازها عن محمد بن سعفان الكوفي، قال‏:‏ لأن كل واحد منهما فاعل مفعول، وقرئ‏:‏ وبالسلاسل يسحبون، ولعل هذه القراءة حملت الزجاج على أن تأول الخفض على إضمار حرف الجر، وهو تأويل شذوذ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في قراءة من نصب والسلاسل، وفتح ياء يسحبون إذا كانوا يجرونها، فهو أشد عليهم، يكلفون ذلك وهم لا يطيقون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏يسجرون‏}‏‏:‏ يطرحون فيها، فيكونون وقوداً لها‏.‏ وقال السدي‏:‏ يسجرون‏:‏ يحرقون‏.‏

ثم أخبر تعالى أنهم يوقفون يوم القيامة من جهة التوبيخ والتقريع، فيقال لهم‏:‏ أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا‏؟‏ فيقولون‏:‏ ‏{‏ضلوا عنا‏}‏‏:‏ أي تلفوا منا وغابوا واضمحلوا، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون‏:‏ ‏{‏بل لم نكن نعبد شيئاً‏}‏، وهذا من أشد الاختلاط في الذهن والنظر‏.‏

ولما تبين لهم أنهم لم يكونوا شيئاً، وما كانوا يعبدون بعبادتهم شيئاً، كما تقول‏:‏ حسبت أن فلاناً شيء، فإذا هو ليس بشيء إذا اختبرته، فلم تر عنده جزاء، وقولهم‏:‏ ‏{‏ضلوا عنا‏}‏، مع قوله‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏}‏ يحتمل أن يكون ذلك عند تقريعهم، فلم يكونوا معهم إذ ذاك، أو لما لم ينفعوهم قالوا‏:‏ ‏{‏ضلوا عنا‏}‏، وإن كانوا معهم‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏‏:‏ أي مثل هذه الصفة وبهذا الترتيب، ‏{‏يضل الله الكافرين‏}‏، وقال الزمخشري‏:‏ أي مثل ضلال آلهتهم عنهم، يضلهم عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا‏.‏ ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح، ‏{‏بغيرالحق‏}‏‏:‏ وهو الشهادة عبادة الأوثان‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ذلك العذاب الذي أنتم فيه مما كنتم تفرحون في الأرض بالمعاصي والكفر‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏تمرحون‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ الفخر والخيلاء؛ وقال مجاهد‏:‏ الاشر والبطر‏.‏ انتهى، فقال لهم ذلك توبيخاً أي إيماناً لكم هذا بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعاصي وكثرة المال والأتباع والصحة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الفرح والسرور، والمرح‏:‏ العدوان، وفي الحديث‏:‏ «إن الله يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين» وتفرحون وتمرحون من باب تجنيس التحريف المذكور في علم البديع، وهو أن يكون الحرف فرقاً بين الكلمتين‏.‏

‏{‏ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها‏}‏‏:‏ الظاهر أنه قيل لهم‏:‏ ادخلوا بعد المحاورة السابقة، وهم قد كانوا في النار، ولكن هذا أمر يقيد بالخلود، وهو الثواء الذي لا ينقطع، فليس أمراً بمطلق الدخول، أو بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا سبعة أبواب التي لكل باب منها جزء مقسوم من الكفار، فكان ذلك أمراً بالدخول يفيد التجزئة لكل باب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا‏}‏ معناه‏:‏ يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا، لأن هذه المخاطبة إنما هي بعد دخولهم، وفي الوقت الذي فيه الأغلال في أعناقهم‏.‏ وأبواب جهنم‏:‏ هي السبعة المؤدّية إلى طبقاتها وأدراكها السبعة‏.‏ انتهى‏.‏ وخالدين‏:‏ حال مقدرة، ودلت على الثواء الدائم، فجاء التركيب‏:‏ ‏{‏فبئس مثوى المتكبرين‏}‏‏:‏ فبئس مدخل المتكبرين، لأن نفس الدخول لا يدوم، فلم يبالغ في ذمّه، بخلاف الثواء الدائم‏.‏